تدمر …ذلك الجرح النازف
لم يكن يخطر ببال تلك المدينة الصحراوية الضاربة في عمق التاريخ والحضاره ، لم يكن أبدا يخطر ببالها أن تتحوّل الى مقبرة فظيعه ، مقبرة بلا شواهد ولا أسماء لضحاياها ونزلائها ، مقبرة دفن فيها أبناء برره لسوريه الحزينه الباكيه الاسيره … لم يكن أبدا يخطر ببال زنوبيا أن يكون وراءها يوما ما كل هذا الحقد على أبنائها وأجيالها ، أن تتحول أرض الصحراء الخالده الى مقبرة لخيرة أبناء سوريه .
هنا – في تدمر – تخجل الحضاره مما آل اليه الحال ، وتنتحب المروءه ، ويغتال الشرف والغيره والنخوه وكل المبادئ العظيمه ، هنا سجل متعفّن متّسخ مدنّس لاسوأ حقبة شهدها تاريخ سوريه الحديث والقديم ، هنا وقف التاريخ ولم يتحرك بعد منذ ثلاثين عاما ، وقف مذهولا من هول ما جرى ومن شدة ما عرف من مجازر ، هنا ماتت الكرامه ودفنت في تلك الصحراء القاحلة الموغلة في القدم والمغروسة في أعماق أعماق الانسانيه ، دفنت ولم يصل عليها أحد ولم يرثها أحد ، ولم يشيّعها أحد الى هذه الصحراء الموحشه .
في تدمر لا أحد يذكر المعتصم ولا هارون الرشيد ولا عبد الملك بن مروان ، ولا معاويه ولا علي ولا أبي عبيده ولا شرحبيل ، جاء بعدهم التتار والمغول ورحلوا ، وجاء الرومان ورحلوا ، وجاء الفرنسيون ورحلوا ، ولكن أي أحد من هؤلاء لم يكن ببشاعة وفجاجة وحماقة وإجرام حافظ الاسد ورفعت الاسد وآصف شوكت وماهر الاسد ومصطفى طلاس والاحمر والشرع ، لم يكن أحد من الغزاة الذين أتوا على تدمر ببشاعة هؤلاء ولا بحقد هؤلاء ولا بلؤم هؤلاء ، ولا بخسة هؤلاء ، لم تعرف تدمر أبدا من كل من غزاها مثل هؤلاء الذين عاثوا فسادا وقتلا وتنكيلا بأهلها قبل أن يدفنوهم في مجاهلها وقفارها .
من نذكر من أحبابنا في مقابر تدمر : الابرار النجباء من ذوي المراتب العلمية والادبية الرفيعه ، الاطباء الاربعة عشر الذين قتلهم واحدا بعد الاخر طببب السجن الطائفي الوغد لانهم كانوا ليس على وفاق معه أثناء الدراسه ، أم الاب المكلوم الذي قتلوا أبناءه الثلاثه أمام عينيه ، أم الاف مؤلفة من الشهداء الذين وقّع على إعدامهم المجرم مصطفى طلاس ، من نذكر ومن ننسى ؟ فلذات أكباد الشعب السوري من كل القرى والمحافظات قتلوا رميا بالرصاص أو من مرض السل أو نقص الطعام والدواء ، أو التعذيب الذي لا تتحمله حتى الجبال الراسيات ، أم ماذا ؟ ما نذكره من تدمر وما ننساه ؟ إطعام الفئران للسجناء أم التبول على رؤوسهم من فتحات المهاجع ، أم سجن النساء ؟ أم سجن القاصرين رهائن عن ابائهم او اشقائهم ، أم كميات الذهب التى كان يدفعها أهل السجناء لكي يرونهم ، يدفعونها لام هذا المجرم أو لاخته او لزوجة هذا الضابط أو ذاك ، فقط لكي يروا أبناءهم بعد سنين طويله من سجنهم ؟ ماذا نتذكر من تدمر وماذا علينا أن ننساه ؟ هل ننسى كرامتنا التى ذفنت هناك ؟ أم ننسى حريتنا ؟ أم ننسى أسماءنا ؟ أم ننسى الوطن الذي تم تكبيله وتقييده من خلال ما حصل في زنازين تدمر الرهيبه .
كل المجازر نبشت وإقتيد أبطالها الى المحاكم : سربرنيتشا ، كوسوفو ، راوندا ، صبرا وشاتيلا ، تل الزعتر ، الارمن والاتراك ، كلها عرفت نوعا من العداله ولو بنسب مختلفه ، ما عدا تدمر وحماه ، بعد ثلاثين عاما ما زال ممنوعا علينا حتى معرفة أسماء الضحايا وأماكن سكناهم ، ما زال ممنوعا علينا حتى أن نتذكرهم او ان يخطرون على بالنا ، أي ظلم وأي قهر وأي مشقة الاّ تعرف قبر إبنك أو أخيك أو بن عمك ، أي هول هذا الذي حل بسوريه من خلال تدمر الجريحه الحزينه الخائفه ، الخجوله مما حصل على أرضها الطهور .
هل مطلوب منا أن نصفح عن المجرمين ؟ هل يحلّ لنا أن نغفر لهم ما فعلوه ؟ هل ممكن لابائنا أن ينسوا أغلى أبنائهم في مقابر تدمر وحماه وحلب وجسر الشغور ؟ هل يجوز لنا أن نغفر ؟ هل نستطيع أن نغفر ؟؟؟؟
علي الاحمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *